السبت، 20 فبراير 2010

هل الكاتب إله شخوصه الروائية؟


تعقيب على عبدالغني كرم الله- سودانيز اونلاين


عزيزي كرم الله

تشابكت خيوطي، وما حَمِلَت من أفكار، فترددت كثيراً، من أين أبدأ، من فكرة الموت، أم من ثِقل الأغتراب الذاتي، واللاإنتماء النفسي( والذي يتمثل هنا في شخص مصطفي سعيد)، أم من العلاقة بين الخالق ومخلوقاته، أما سبب ترددي فهو أن محاور الأفكار المذكورة أعلاه، صاغت أحرفي في الآونة الأخيرة، وتمسكت بنات أفكاري بتلابيب عباءاتها، وغزلت منها نول الخيال.
أذن سأبدأ من حيث أنتهى الغائبون، وكم تمنيتُ عودتهم لتنويرنا بميتافزيقيا صدأ من عمقها البشر، الموت يا صديقي يعتلي هرم الحياة، شأنه شأن الإنجاب والنمو، يتهيأ في صمت حولنا، نهيل عليه السواد، ونسدل عليه حجباً سماوية، حرية شُوشت بدوافع الفقد، شأنه شأن النٌبل، والأنسانية السامية، حاول أن تتذكر، كل المعاني الصادقة والنبيلة من حولك، هالة الحزن التي تتلبسها، والصدق أو النبل دائماً مناط بالحزن.
كتبت لك من قبل، عن مدي يقيني بالموت، حينها قلتُ لك:

(بعد أن تجرعت كُؤُوس غربتي لم أجد انتمائي إلا للموت، كفكرة عظيمة، كفناء طبيعي للجسد، كشيء غامض لم يُدرَك كنهه، الموت يا عبد الغني كفكرة، تؤرق كل كاتب، التجربة التي يتمنى الكثير خوضها والعودة من جديد للكتابة عنها، درويش كاد أن يفعلها، جدارية محمود درويش هي رحلة الموت والعودة للكتابة عنه من جديد، محمود درويش تناول الموت في أكثر من قصيدة، تحدى الموت بكلماته، وغير مفهومه داخلي لطالما كنت أوصد بابي في وجهه ، كضيف ثقيل الظل غير مرحب به، عكس الآن، عندما مات درويش، وخرج الملايين لوداعه، كاد الدمع أن يثقب عيني وأنا أمنعه من التسرب، في نهاية المطاف نثرت حزني علي شجني، وأشعلت الجسد برغبات الرقص وثرثرته خلف إيقاع موسيقي صاخب، لطالما رحب محمود درويش بالموت، لطالما سَخِر من الحزن. فِلَم خذلانه بالبكاء والنحيب؟)


سَديم واقعٍ متكثف، سَطَمَ أرواحنا، وسَدَمَ عقولنا، يا كرم الله، فذبلت بها الأنسانية، وتجردت من أسمى معانيها، رنين الحياة الصاخب حولنا، وأن دلّ فأنه يدل على أنها جوفاء، قرِعة، تَقَيَّأَتِ ما ببطنها فتناسلت منها طينة البشرية، فقاعات هواءٍ، تخرج من تجاعيد الأرض، أجيال تصعد من تراب، ثم تهوي كالشهب عليه، بعد أن أحرقتها أشعة شمسٍ، كشفت ظلمات الحياة.
ديمومة متبلدة، تعيد صيرورتها، الحالك فينا، يشرئب فارهاً ضد نقيضه، ونحن نكتب، ونهرب خلف سراب واقع بعيد عن ما كتبناه.
لاشيء حقيقي حقاً يخرج حياً من أفكارنا، بل هي مداد أحرف صُيغت بأيدي خفية، لا شيء جديد، موميات أفكارهم التي تكفي لتحنيط أفكارنا، وينتج عنها نفط يدير محركات أفكار نشء قادم.
تساءلت عن علاقة الخالق بالمخلوق، عرجتَ بأفكارك لنيتشه، والذي دعى الذات الفردية للإرتقاء، والوصول لفكرة الإنسان الأعلى، ومنها يصل لمنزلة الإله، والمعبود، وهكذا يكون الفرد إله أناه الخاصة، وهيأ نفسه ليكون الرسول المبشر لهذا الإله، فُصلب على ألواح كتاباته ذاتها، بعد أن فتك به الأنسان اللامنتمي داخله، نيتشه فطن للوجود من حوله، إنسانية مجردة من معناها، زيف، خلل أخلاقي، سياسي، ديني، من حوله، كل ذلك على أيدي مخلوقات الخالق، تساءل ذات ألم، وأحباط مبكر، وهو مايزال في الثامنة عشر من عمره، كيف لا تحمل المخلوقات روحاً، ونوراً من خالقها.
قلتَ لمصطفي سعيد، (مات إلهك)، ولم يكن الطيب صالح الهاً له، بل كان مصطفي سعيد، فالكاتب يكتب، ليصنع واقع أفتقده في عالمه، والقاص يصنع أبطاله ليشخص فيهم معتقداته، وينطق ما لم يفصح عنه بنفسه.
مصطفي سعيد، روح!! جسداً شُيّدَ من خيالات وأحلام ورؤى، فهل قُبرت روح مصطفى سعيد؟؟ لا بل هل قُبرت روح خالقه، بعد قَبّار جسده؟
بالرغم من أن نظرتي لشخص مصطفي سعيد، تختلف كثيراً عن نظرتك له، والتي تجلت عبر هذه الرسالة، إلا أني أشفق عليه من عذابات الوحدة، أو الوحدانية المضللة، وأنا هنا لا أتحدث عن وحدانية الجسد، بل وحدانية الروح الرتيبة، وهي أشد وطأة من وحدانية الجسد الذي يمكننا أسكات صراخه وهزيعه، ولكن كيف لنا قَبّار وحدانية الروح، ظني أنها تظل طليقة حتى بعد قبر الجسد، فهل تُقبر الأرواح؟؟
أو تعلم يا عبد الغني، لو سألتني من قبل، لمن تبعث برسالتك هذه، لما رجّحت خيار مصطفي سعيد، بغض النظر عن تفسيري للتجاوزات التي في شخصه، هل تظن أنه تأثر لموت خالقه حقاً، هو الذي وئد الإحساس قديماً، وجرد حزنه من فقد الاخرين، على كل حال، كان خياري لك سيتجه نحو الزين، فهو بالرغم من أميته صادق جداً، وإنساني جداً، لم تزيفه معالم التمدن، والإتيكيت، وبرود الإنجليز اللاذع، هو حقيقي لأقصي مدي في الحقيقة، حزنه حقيقي، سعادته حقيقية، مشاعره حقيقية، يمكنني تخيل نظرة الاستغراب في عينيه، عند أستلامه لرسالتك، سيتساءل عن المرسل، ولكن قلبه سينشرح بالفكرة، والتي ستهدم إحساسه بالنفي والرفض، والذي يواجهه من المجتمع بسبب إنسانيته تلك، ينادي أحد الفتية، لقراءتها له، بعد أن يعده بشراء زجاجة (بارد) من أجله، ينفذ صبرالصبي من محاولاته لشرح الرسالة للزين، يرمي الصبي الرسالة في وجه الزين، وينعته بالغباء، يختطف زجاجة (البارد) ويركض بعيداً، يبتسم الزين، غريب هذا الزين في كرم أخلاقه، يبتسم في وجه من تعمدوا أذيته، هم يظنون إبتسامته دليل أضافي على غباء الزين، وما دركوا أن تحت الإبتسامة جرح غائر، تسببوا في تخليده، أو كما قال العم محجوب يوماً: كل الجوح بتروح: إلا التي في الروح.
تقديري وإحترامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق